فقه و قضاء حماية المال العام: المحاكم المالية وإشكالية حماية المال العام

http://www.marocdroit.com/photo/art/default/5702669-8504105.jpg
الصديق حيدة متصرف من الدرجة الأولى بمديرية الشؤون الإدارية والعامة وزارة الاقتصاد والمالية أستاذ جامعي زائر بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بسلا
فقه و قضاء حماية المال العام: المحاكم المالية وإشكالية حماية المال العام


يعتبر حماية المال العام من أهم أولويات سياسة الدول؛ وذلك لارتباط هذا المعطى بمجموعة من الميادين وعلاقته التفاعلية مع مجموعة من المجالات سواء الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية، هذا ولا يمكن حماية المال العام إلا بوسائل وآليات تضمن تحقيق هذا الهدف.

وقد عملت مجموعة من الدول على إحداث هذه الآليات، والمغرب بدوره لم يخرج عن هذه القاعدة حيث سعى إلى تطوير هذه الوسائل والآليات من خلال إنشاء المجلس الأعلى للحسابات ثم دسترته، وبعد ذلك إنشاء المجالس الجهوية للحسابات مع ما رافق ذلك من التنصيص على مدونة المحاكم المالية.

ويعتبر المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية للحسابات قطب المحاكم المالية بالمغرب؛ تم تنظيمهما بموجب الظهير الشريف رقم 1.02.124 الصادر بتاريخ 13 يونيو 2002 بتنفيذ القانون رقم 99-62 المتعلق بمدونة المحاكم المالية، الذي نص على مجموعة من المقتضيات المنظمة لهذه المحاكم وخاصة ما يتعلق بمسطرة البث في الحسابات ومسطرة التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية.

وقد خصص المشرع لهاتين المسطرتين جانبا مهما، حيث تم تنظيمهما على مستويات مختلفة، سواء من حيث تحديد الأشخاص المعنيين بهذه المسطرة،أو موضوع المخالفات، إضافة إلى تحديد المسطرة الواجبة التطبيق وأخيرا التنصيص على نتائج قيام المسؤولية.

وموضوع بحثنا هذا سنخصصه للحديث عن المحاكم المالية وإشكالية حماية المال العام من خلال الاختصاص القضائي لهذه المحاكم في الشق الخاص بالتأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية.
وللإجابة عن هذه الإشكالية سنحاول معالجة هذا الموضوع انطلاقا من محورين أساسيين:

المحور الأول:سنخصصه للحديث عن بعض الاشكاليات القانونية والصعوبات العملية التي تعترض مسطرة التقاضي أمام المحاكم المالية، سواء على مستوى النصوص التشريعية المنظمة لها أو المساطر المتبعة أمامها.

المحورالثاني:سنتعرض فيه للإجابة عن الاشكالية المتعلقة بحماية المال العام من خلال مدى نجاعة مسطرة التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية.

المحور الأول :الاشكالات القانونية والصعوبات العملية

إن الحديث عن نجاعة مسطرة التأديب المالي في حماية المال العام يجرنا إلى الحديث عن الإطار القانوني لهذه المحاكم، فبالرجوع إلى الظهير المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة نجد أن هذا الأخير يتشكل من المحاكم الابتدائية والتجارية والإدارية، ثم محاكم الاستئناف العادية والتجارية والإدارية، دون الحديث عن المحاكم المالية، كما أنه بالرجوع إلى القانون رقم 99-62 المنظم للمحاكم المالية نجده لا يتضمن أية إشارة إلى كون هذه المحاكم تندرج ضمن التنظيم القضائي، علما أن بعض فصوله تحيل إلى قواعد المسطرة المدنية.
وهكذا؛ فالاطار التشريعي لهذه المحاكم هو من نوع خاص يختلط فيه الدستور (الفصل 147-148-149)مع القانون المحدث للمحاكم المالية، مما يجعلنا أمام محاكم من نوع خاص. وتبرز هذه الخصوصية أيضا في النظام الأساسي لقضاته الذي يؤطره نظام قانوني خاص (الكتاب الثالث من مدونة المحاكم المالية) وينضوي قضاته تحت مجلس قضاء المحاكم المالية الذي يتولى السهر على تطبيق النظام الأساسي الخاص بقضاة هذه المحاكم.
وتزداد هذه الخصوصية أيضا من خلال التأمل في منصب الرئاسة والدور المتعاظم لهذه المؤسسة من حيث اختصاصاتها القضائية والإدارية (من المادة 8 إلى13) مقابل الدور الباهت للنيابة العامة، فرئيس المجلس الأعلى للحسابات ليس قاضيا ولا يشترط فيه ذلك، وهو أمر يخالف ما يجري عليه الأمر في المحاكم العادية بكل تخصصاتها ضمانا لاستقلالها، كما أن هذه الخصوصية يمكن رصدها من خلال شخص الكاتب العام الذي لا يكون قاضيا رغم أنه يطلع بمهام مرتبطة بالمسائل القضائية كعضويته لغرفة المشورة (المادة 22) ومراقبته لآجال تقديم الحسابات (المادة 15).
من جهة أخرى يشكل الاختصاص المزدوج للمجلس إشكالية تزيد من تعميق خصوصيته؛ فهو يختص بدور قضائي من خلال مسطرتي البث في الحسابات والتأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية؛ويختص كذلكبمراقبة التسيير، الأمر الذييتجلى من خلال الدور الذي يقوم به المستشار المحقق عند مباشرة مسطرة البث في الحسابات، إذ يتوجب عليه تحرير تقريرين الأول يتعلق بنتائج دراسة الحساب، والثاني يتعلق بتقييم التسيير بالنسبة للأجهزة الخاضعة لرقابة المحاكم المالية (المادة 32).
كما أن للنيابة العامة بهذه المحاكم دور باهت بالمقارنة مع دور النيابة العامة بالمحاكم العادية التي تعتبر جهازا مستقلا ويطلع باختصاصات وسلطات واسعة مخولة له قانونا في إطار سلطة المتابعة والملائمة، فهي جهاز مستقل عموديا في ما هو مختص به، ويتكامل مع بقية المؤسسات القضائية أفقيا. بينما جهاز النيابة العامة في المحاكم المالية محصور في اختصاصاته بين مراقبة التقارير والرجوع إلى المجلس بشأن أية مخالفة من أجل تعيين مستشار مقرر مكلف بالتحقيق يعيِّنُه الرئيس، دون أن تتوفر النيابة العامة على أجهزة تابعة لها للقيام بالبحث على غرار الضابطة القضائية، كما أن سلطة هذا الجهاز عند توجيه الاتهام تبقى في إطار محدود بشأن توقيع غرامات في حالة التأخير في تقديم الحسابات أو الإحالة بشأن العمليات التي تشكل تسييرا بحكم الواقع؛ وتقديم مستنتجات وملتمسات، الطابع الغالب فيها أنها غير ملزمة باستثناء الملتمسات. ومن جانب آخر فإن مبدأ التقاضي على درجتين يجعلنا أمام حالة خاصة في المحاكم المالية سيما وأن المجلس الأعلى للحسابات يتم الطعن أمامه بالاستئناف ضد القرارات النهائية الصادرة عنه.
هذا فضلا عن غياب النص على طرق الطعن الأخرى العادية كالتعرض وغير العادية كتعرض الغير خارج الخصومة أو إعادة النظر، فلا يمكن الطعن إلا بالاستئناف أو النقض أو المراجعة في القرارات الصادرة عن المجلس الأعلى للحسابات، وبالاستئناف والمراجعة بالنسبة لأحكام المجالس الجهوية للحسابات.
كما حدد المشرع آجال الطعن بالنقض في ستين يوما (المادة 49 من مدونة المحاكم المالية) وجعل هذا النوع من الطعن خاضع للقواعد العامة، وأوكل للغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى البث في الطعن بالنقض، وهو توجُّه قد قصد به توحيد الاجتهاد القضائي كان الأجدر أن يتبلور على مستوى توحيد النظام القضائي وقواعد التقاضي.

المحور الثاني:مدى نجاعة مسطرة التأديب المتعلق بالميزانية

والشؤون الماليةفي حماية المال العام
 
لا يختلف اثنان في كون ضرورة إخضاع أية تجربة أو مبادرة إلى عملية تقييم موضوعية؛ وذلك لتحديد مكامن الضعف والقوة؛ والأكيد أن عملية التقييم لا يمكن أن تعطي إلا نتائج محمودة إذا تلتها إجراءات عملية ومبادرات فعالة لسد مكامن الخلل والضعف ودعم مكامن القوة، وبطبيعة الحال فإن الأمر في غاية الأهمية إذا ما تم الحديث عن مدى نجاعة مسطرة التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية في حماية المال العام؛ نظرا لأهمية هذا الموضوع ولارتباط المال العام ارتباطا وثيقا بالوضعية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للبلد.
وعليه، فإن الإجابة عن هذه الإشكالية سيتم من خلال الحديث عن الأشخاص الخاضعين لرقابة مسطرة التأديب المالي، وآليات الضغط والردع التي تتوفرعليها المحاكم المالية، ثم نتائج قيام المسؤولية.

على مستوى العنصر البشري

 كما سبقت الإشارة إليه فإن مدونة المحاكم المالية قامت بتحديد الأشخاص المعنيين بمسطرة التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية وذلك من خلال المادة 51، وحددت المخالفات (المواد 54-55-56) ارتباطا بصفة هؤلاء الأشخاص واختصاصاتهم، إلا أنه بالرغم من هذا التحديد سواء على مستوى الأشخاص أو المخالفات فإن نجاعة هذه المسطرة تبقى غير فعالة في غياب التنصيص على مجموعة من الأشخاص الذين لهم دور فعال ومؤثر في حماية المال العام، وعلى رأس هؤلاء الأشخاص: فئة الوزراء، فهذه الفئة ليس لها فقط تأثير على حماية المال العام، بل إن دورها مرتبط بتفعيل الحكامة الجيدة أيضا، والحفاظ على الاستقرار النفسي والمعنوي للمواطنين خاصة وأن القانون يمنح لهذه الفئة صفة الآمرين بالصرف.
بالإضافة إلى أعضاء الحكومة نجد فئة أخرى لا تقل أهمية عنها هم أعضاء مجلسي النواب والمستشارين، الذين يكونون قطب السلطة التشريعية، فقد استثناهم المشرع أيضا من الخضوع لمسطرة التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية (المادة 52-53) رغم ما تشكله هذه الفئة من تأثير على السياسة المالية وما تتوفر عليه من حصانة وامتيازات قد يكون لهما دور سلبي في حماية المال العام.
إضافة إلى الفئات المذكورة فإن أجهزة أخرى مرتبطة بالمال العام لا تخضع لهذه الرقابة؛ منها مثلا ما يعرف ببرامج التنمية كبرنامج المغرب الأخضر والمغرب الطاقي والمغرب الرقمي؛ فهذه البرامج تعرف تمويلا عموميا لكن لا تصل إليها رقابة المجلس الأعلى للحسابات، وكذلك الأمر بالنسبة للوكالات المستقلة المتعلقة بتنمية الأقاليم الشمالية والجنوبية.
وهكذا لا يمكن أن نتحدث عن نجاعة مسطرة التأديب المالي في حماية المال العام دون أن يكون هناك تكامل وبعد نظري في تحديد الأشخاص المعنيين بهذه المسطرة، فكل إخلال في هذا الإطار يؤدي إلى تحقيق عكس الأهداف المنشودة؛ فالغاية في تحديد الأشخاص تكمن في الكيف وليس في الكم.

على مستوى آليات الضغط والردع

إذا كان الوكيل العام لدى المجلس الأعلى أو وكيل الملك لدى المجالس الجهوية للحسابات يقومان بدور هام في تحريك المتابعة بالإضافة إلى أطراف أخرى؛فإن العبرة تكمن فيما يـَعقُب هاته المتابعة، لأن هذه المرحلة هي التي تجسد الدور الحقيقي سواء للمجلس الأعلى للحسابات أو المجالس الجهوية للحسابات، وإذا كان المشرع من خلال مدونة المحاكم المالية قد نص على مجموعة من المساطر والإجراءات؛ إلا أن ذلك يبقى ضعيفا مقارنة مع الهدف الرئيسي ألا وهو حماية المال العام.
فكيف يمكننا أن نتحدث عن نجاعة مسطرة التأديب المالي في حماية المال العام في إطار وجود آليات ضعيفة وهشة للضغط والردع؛ وهي هشاشة تتجلى في في الغرامة التي يأمر بها الرئيسوالمتراوحة ما بين مبلغ 500 و2000 درهمفي حالة امتناع الأشخاص المعنيينعن الحضور أمام السيد المستشار المقرر، أو في حالة رفض الإدلاء بأجوبتهم عن استفسارات وبيانات تم طرحها من طرف السيد المستشار المقرر، ويتم الأمر بهذه الغرامة أيضا في حالة الامتناع عن أداءاليمين أو الإدلاء بالشهادة(المادة 69).
ومنه يطرح التساؤل عن مدى أهمية هذه الغرامة في إخضاع المعنيين بالأمر لمتطلبات التحقيق والحضور التي يباشرها السيد المستشار المقرر؟
وفي هذا الإطار قد يفضل المعني بالأمر عدم الحضور أو عدم الإدلاء بالأجوبة وكذا الامتناع عن أداء الشهادة أو أداء اليمين مقابل أدائه هذه الغرامة، في وقت يتعين التشديد في هذا الإطار بتفعيل مقتضيات المسطرة الجنائية، خاصة فيما يتعلق بعدم الحضور، بتسخير القوة العمومية وتفعيل دور النيابة العامة في إجبار المعنيين بالأمر على القيام بجميع ما يطلب منهم لأن الأمر له ارتباط بمسطرة تهدف مقتضياتها حماية المال العام.
 
على مستوى نتائج قيام المسؤولية

إن قيام مسؤولية المعني بالأمر في مسطرة التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية تتحدد نتائجها بصفة أساسية في الأمر فقط بغرامة مالية ضد من ثبتت مسؤوليته، بالإضافة إلى ما نصت عليه المادة 111 من مدونة المحاكم المالية من كون العقوبة المالية لا تعفي المعني بالأمر من المتابعة التأديبية والجنائية إذا اقتضى الأمر ذلك.
إلا أنذلك يبقى غير كاف لحماية المال العام؛ لأن الأمر قد يتوقف عند الغرامة فقط في حالة عدم توفر شروط تفعيل مقتضيات المادة 111 من المدونة، بالرغم من أن المخالفات المنصوص عليها
في المواد 54-55-56 من هذه المدونة تشكل مساسا خطيرا بمبدأ الحكامة والشفافية في تدبير المال العام، إذ كان حريا بالمشرع المغربي البحث عن آثار أخرى وعقوبات أكثر تشددا من ذلك؛ وخاصة إذا علمنا أن المحاكم المالية لا تتوفر على سلطة تأديبية وزجرية، إذ أنها تصدر أحكام قضائية شكلية يكون مضمونها الحكم بالغرامات المالية أو إكمال المستندات الناقصة.
إن الحكم بالغرامة في مقابل الاختلالات المالية عنصران غير متوازيان حيث من شأن هذا التفاوت في معالجة الاختلالات أن يمس بالاستقرار المالي والاقتصادي للدولة. كما أن التنصيص على نشر القرارات الموجهة ضد من ثبتت مسؤوليتهم وسيلة غير كافية وغير فعالة في حماية المال العام، فإذا كان هذا الإجراء يمس بالجانب المعنوي للشخص، فإنه لا يمكن أن يكون رادعا لمن ثبتت مسؤوليته في عملية نهب المال العام.
وختاما يمكن القول أنه إذا كان دور المحاكم المالية هو حماية المال العام، وأن المشرع المغربي قد أحدث آليات مؤسساتية وقانونية لتفعيل هذه الحماية، فإن ذلك يشوبه الكثير من النقص سواء في الفعالية أو المساطر الواجبة التطبيق.كما أن كل تهاون في حماية المال العام له تأثير سلبي على الجانب الاقتصاديوالاجتماعي والبنيات التحتية، وهو باختصار مساهمة في بناء أرضية للانحطاط والتخلف.

وهكذا فالأمل معقود على ما ينكب عليه المغرب من وضع أرضية للإصلاح الشامل لمنظومة العدالة، باعتبار أن هذا الاصلاح يشمل مجموعة من العناصر المرتبطة بحماية المال العام، مثل الانخراط في محاربة الرشوة بتخليق الحياة الإدارية والعامة، ومحاولة تطوير منظومة التنظيم القضائي؛ في أفق التفكير في محاكم مالية مستوفية لجميع شروط النجاح سواء على مستوى المؤسسة أو القوانين المنظمة لها.



المصدرhttp://www.marocdroit.com/فقه-و-قضاء-حماية-المال-العام-المحاكم-المالية-وإشكالية-حماية-المال_a3672.html




ifttt
Put the internet to work for you. via Personal Recipe 2937150