http://www.marocdroit.com/photo/art/default/5668705-8454334.jpg أحمد الخراز طالب باحث في ماستر النظام الجمركي تطوان كل من تابع الجلسة الشهرية ما قبل الاخيرة التي حضرها رئيس الحكومة عبد الاله بنكيران داخل مجلس النواب، و التي عرفت أولى حلقات مسلسل المقاطعة لأحزاب المعارضة بدعوى عدم رضاها أولا، عن الحيز الزمني المحدود الذي يظل -حسبها- غير كاف بالنظر الى ما باتت تتمتع به المعارضة البرلمانية من مسؤوليات و مهام أولاها لها الدستور الجديد، و ثانيا على الطريقة التدبيرية التي يدبر بها رئيس الحكومة ردوده على مجمل أسئلة المعارضة، و وقوعه غير ما مرة في الخلط الملتبس بين خطاب سياسي لرئيس حكومة، و بين آخر إيديولوجي حزبوي متعصب و ضيق. و لعله نفس الالتباس الذي سقطت فيه كل تنظيمات الاسلام السياسي التي تبوأت مناصب القرار الحكومي بعد أن ''حملتها'' أكتاف المتظاهرين من الميادين الى القصور. فتدبير الشأن العام و العمل السياسي المشترك من داخل توليفة حكومية مختلفة التوجهات و الخلفيات، يقتضيان ذهنية عمل و تصور أكثر انفتاحا، و أفقا أرحب لتدبير الاختلاف بدل ذهنية الصراع و الاستفراد بالقرار، فهناك فرق بيّن بين البرنامج الحزبي لتكتل سياسي منسجم و متآلف محكوم بأرضية تنظيمية و منطلقات مذهبية و قانون داخلي و تصور سياسي و اديولوجي، و بين برنامج فريق حكومي منتخب يتم التوافق بشأنه داخل الفرقاء السياسيين المشكلين للحكومة، الحديث هنا عن برنامج مشترك للقوى الحزبية الممثلة داخل الحكومة، وفق التزام سياسي و اخلاقي و تعاقدي بين الناخبين و أحزاب الاغلبية، و هذا ربما ما لم يوفّق السيد بنكيران في الوفاء به و العمل عليه، فإلى جانب العديد من القرارات الانفرادية التي أمعن في اتخاذها و التي تمس النسيج الاجتماعي و الاقتصادي المغربي الهش أصلا، ها هو اليوم يصر في الدفاع عن إحدى هذه القرارات الاكثر إثارة للجدل، و هو قرار تجميد ميزانية الاستثمار لدى أغلب القطاعات الحكومية، و لعل المتابع لتلك الجلسة سيثيره موقف رئيس الحكومة المستميت في الدفاع عن قرار أحادي لم ينل حتى دعم فريقه الحكومي. و رغم أن الموضوع فقد من البريق ما فقد، إلا أن إصرار السيد بنكيران في الدفاع عنه مقللا من تأثيرات عواقبه على النمو الاقتصادي، دفعني دفعا إلى كتابة هذا المقال، رغم الاسطوانة المشروخة التي ما فتئ السيد رئيس الحكومة يرددها على مسامعنا أينما حل و ارتحل، من كونه يدفع ضريبة شفافيته و انفتاحه على المواطنين بإشراكهم فيما يتخذه من قرارات معللا ذلك بقوله: "أننا ما كانحشموش نقولو للناس آش تنديروا''، و الظاهر أنه تناسى أن هناك فرق بين إشراك الناس في اتخاذ قرار معين و إخبار الناس بذلك القرار. كما أن ما يغيب عن السيد بنكيران هو أن حق الحصول على المعلومات قد غدا حقا دستوريا بعد 2011، فالفصل 27 من الدستور حصر تقييد هذا الحق بمقتضى قانون في حالات أعدّها حصرا، في كل ما قد يهدد أمن الدولة الداخلي و الخارجي و حياة الافراد الخاص، و مادام قرار تجميد ميزانية الاستثمار كغيره من القرارات الاخرى لا يدخل ضمن هذه المجالات المقيدة في الفصل آنف الذكر، فلا داعي يا سيد بنكيران من تذكيرنا في كل مرة بوهم البطولات الخطابية، فلست تمنّ علينا، و المعلومة حق مكتسب و ليست صدقة من يمينك، صحيح أن الحكومات السابقة كانت تلجأ عند الضرورة إلى تأخير أو توقيف بعض نفقات الاستثمار العمومي باتفاق داخل الحكومة دون اللجوء الى مسطرة محددة و حتى دون أن تعلم البرلمان و المواطنين و المقاولات بهذا الإجراء، إلا أن الزمن السياسي الراهن يختلف عن مثيله في الماضي، فلست أعرف لماذا تصر دائما على العيش خارج زمنك و لماذا تحاول في كل مرة جرّنا إلى ارتكاسات الماضي القريب، صحيح أن الربيع المغربي لم يكتمل، و صحيح أن النخب الحاكمة لم تستوعب بما فيه الكفاية دروس التغيير الشامل و الجذري في المنطقة، إلا أن زمن القطيعة مع الذهنية الماضوية قد حان، فلا سبيل في مغرب الحراك الاحتجاجي المستمر للعودة للماضي، و لا يمكن بأي حال من الاحوال أن تسير مرافق الدولة برجل في الماضي و أخرى في الحاضر،تلك أمة قد خلت لها ما كسبت و لكم ما كسبتم، فما جدوى خطاباتكم الماضوية المفارقة للواقع السياسي، هل تدركون فعلا أنكم تتقلدون مسؤولية التسيير الحكومي؟ هل أنتم واعون فعلا بكونكم تشكلون الاغلبية الحزبية الحاكمة و أنه من غير الممكن أن تجمعوا بين مهام الاغلبية الحاكمة و فرق المعارضة؟ شخصيا أرى أنكم تمارسون العمل الحكومي بذهنية المعارضة. ثم و بمناسبة حرصكم على إطلاع المغاربة بكل قراراتكم -لانكم ماكاتحشموش- فالاولى أن تكون الآلية الأسلم لهذا الإطلاع هي الإشراك الصحيح للمغاربة في هكذا قرارات، و ليس الاكتفاء فقط بإخبارهم بها بعد سريانها،و لا يتأتى هذا الإشراك في نظري إلا عن طريق عقد لقاءات تشاورية مع خبراء من ذوي الاختصاص، و انفتاح الحكومة على المحيط الاكاديمي و البحثي و التفاعل اكثر مع المجتمع المدني و التعاطي الامثل مع الاعلام و القوى النقابية، و كذا التنسيق المكثف مع مؤسسات التخطيط الاستراتيجي لمعرفة التأثيرات الحقيقية للسياسات الحكومية على الواقع الاقتصادي و الاجتماعي للبلاد. و لعل رئيس الحكومة في جلسة المساءلة في مجلس النواب قدم عرضا خطابيا يقلل فيه من تأثيرات قرار تجميد 15 مليار درهم على النمو الاقتصادي للبلاد،لكنه لم يكلف نفسه عناء استشارة مراكز التوقع و التخطيط لتوضيح الرؤية أكثر بحياد و موضوعية من دون حسابات سياسوية رخيصة او مصالح حزبية ضيقة الافق، فأين الحكومة من استشارة المجلس الاقتصادي و الاجتماعي و البيئي حسب الفصل 152 من الدستور؟ و أين هي من تقارير المندوبية السامية للتخطيط؟ إن قرار تجميد ميزانية الاستثمار ليس حدثا إعلاميا صرفا، لتتعاطى معه الصحافة بنوع من السطحية و البريق الذي سرعان ما يبهت و يخبو، فالقرار أعمق من مجرد ''مانشيت'' للاستهلاك الاعلامي، إنه قرار اقتصادي ذو عواقب اجتماعية و اقتصادية وخيمة،إنه إلى جانب بعض القرارات الارتجالية الاخرى ليؤكد بالملموس تخبط الحكومة إزاء تدبير الصعوبات المالية التي تعرفها البلاد من جهة، و مدى هشاشة التوقعات التي آنبنى عليها القانون المالي 2013 من جهة أخرى. و صراحة أحسست بالامتعاض و أنا أستمع الى مبررات السيد بنكيران، و محاولته التبخيس من أثر هذا القرار على النمو الاقتصادي، ففي الوقت الذي كان يمعن في تسطيح النقاش بدعوى تبسيط تعقيدات الاقتصاد و تقريب السياسة من المواطن البسيط، و تغنيه بإنجازه الكبير في إطلاع المغاربة على قرارات كانت الى عهد قريب تطبخ في غفلة منه، كان على السيد بنكيران أن يسهب في شرح مضمون القرار و يستفيض في تبيان انعكاساته على سوق الشغل و المقاولة المغربية التي سيلجأ أربابها إلى تسريح العمال مما سيهدد القدرة الشرائية لآلاف العمال و الاجراء، خاصة و أن مذكرة صادرة عن مندوبية التخطيط حول وضعية سوق الشغل في الفصل الثالث من سنة 2011، أظهرت ارتفاع معدل البطالة ليصل الى 1،9 في المائة، كما أن قطاع البناء و الاشغال العمومية على رأس القطاعات المتضررة بفقدانها لما يناهز 6000 منصب، مقارنة مع نفس الفترة من سنة 2010، و بلغت نسبة التراجع حسب نفس المذكرة 6،0 في المائة.إلى جانب هذا، من شأن القرار أن ينعكس سلبا على جودة الخدمات المقدمة للمرتفقين بسبب تعطيل عدد كبير من أوراش الاصلاح و التحديث التي كانت ستعرفها بعض القطاعات الحكومية، و في مقدمتها القطاعات الاجتماعية و الفلاحية و الخدمية المتضرر الاكبر من قرار التجميد هذا. كان على رئيس الحكومة أن يكون أكثر جرأة و يجري اقتطاعات مماثلة في ميزانية التسيير عملا بمبادئ الحكامة الجيدة، خاصة و أننا نعرف الفوارق الصارخة بين سلم الاجور الدنيا و حجم التعويضات الخيالية التي يتقاضاها بعض مسيري المؤسسات العمومية او الموظفين السامين و المنتخبين، كان عليه أن يعمل على إخراج قانون تنظيمي لمجلس المستشارين يتماشى مع الفصل 63 من الدستور بحيث يتراوح مجموع أعضائه ما بين 90 و 120 عضوا على الاكثر، تكريسا للانفاق الرشيد بدل إغداق تعويضات خيالية تفوق 12000 درهم في السنة لما مجموعه 270 عضوا، كان عليه أن يقلص من ميزانية السفارات و القنصليات المغربية خارج البلاد و التي تستنزف الملايين في حفلات الملحون و 'كعب غزال' من دون أن تمارس بعضا من أبسط مهامها الادارية في قضاء مآرب أبناء الوطن خارج البلاد، كان عليه أن يتصدى لنزيف الملاييرالمهربة بصفة شرعية على شكل أرباح ترحّل في واضحة النهار لتضخ في حسابات المستثمرين الاجانب في مختلف البنوك العالمية (تحويلات شركة اتصالات المغرب لمبلغ 3،4 مليار درهم على شكل أرباح في حساب فيفاندي الفرنسية سنة 2011)، و حسب مكتب الصرف فقد بلغت تحويلات أرباح الاسهم المالية الى الخارج سنة 2011 الى ما ما مجموعه 9 مليارات درهم،كان عليه أن يتصدى بحزم للتهرب الضريبي الذي بات تقليدا مرسخا لدى كبار رجال الاعمال المغاربة المستفيدين من علاقاتهم بالسلطة،كان عليه أن يضع تصورا و خطة عمل للبدء فورا بإدماج الاقتصاد غير المهيكل في نسيج الاقتصاد الوطني و بالتالي تضريبه تحقيقا للتكافؤ القطاعي و دعم التنافسية،كان عليه أن يعمل على توسيع الوعاء الضريبي بإحداث ضرائب جديدة تطال الثروة و الرأسمال و الارث والمعاملات المالية، و أن يعيد النظر في مدى جدوى و انتاجية النفقات الجبائية و الاعفاءات غير الخاضعة لأي منطق،كان عليه ألا يفوت أملاك الدولة بأثمنة رمزية لكبار المنعشين العقاريين ضربا لمبدأ التنافسية و هدرا لإيرادات ضخمة من شأنها أن تعود بالنفع على خزانة الدولة،كان عليه أن يرفع من حجم الضرائب على شركات المال و المصارف وشركات التأمين التي تجني أرباح خيالية في ظل الازمة، و التي يمكن اعتبارها الرابح الوحيد بفعل الاقبال الكبير على الاقتراض و الرهن العقاري، عكس نظيراتها في الدول الرأسمالية و التي كانت أول القطاعات التي أعلنت إفلاسها، فبحسب دراسة قام بإنجازها مؤخرا قسم التحليلات و البحث التابع لبنك الاستثمار التابع بدوره لمجموعة البنك الشعبي، فإن المؤشرات المالية للابناك المغربية تشهد انتعاشا كبيرا، بفعل ارتفاع حصيلة الناتج الصافي البنكي الاجمالي الى 4،44 مليار درهم،و هذا الانتعاش على عكس ما تحققه المصارف في أقوى اقتصادات منطقة اليورو،فبحسب التقرير الاخير الذي أعدته مؤسسة "إرنست آنديونغ" للاستثمارات الاقتصادية الالمانية فإن أرباح أكبر 13 بنكا في ألمانيا تراجعت سنة 2012 بنسبة 18 في المائة. و يعزى هذا الانتعاش الربحي الكبير الذي تحققه الابناك المغربية إلى ارتفاع سعر فائدة القروض بحيث تتجاوز نسبة 10 في المائة بالنسبة لقروض الاستهلاك، لتصل الى 7 في المائة بالنسبة للقروض العقارية، و هذا السعر يعتبر من بين أحد أكبر أسعار الفائدة في العالم. هناك تدابير اخرى لا تقل أهمية و من شأن الجرأة السياسية و الارادة الصلبة في الاصلاح أن تجعل من خيار التقشف هذا الذي أقدم عليه رئيس الحكومة آخر الخيارات الممكنة،كما كان لزاما على السيد بنكيران و سيرا على نهج الوضوح و الشفافية الذي بات يدعيه من منطلق-أننا مكانحشموش- أن يوضح للرأي العام، أن البلاد قد دخلت فعلا مرحلة التقشف إذعانا لإملاءات صندوق النقد الدولي، و أن قرار التجميد يمثل إحدى الحلقات الاولى من حزمة قرارات لا شعبية، كتفكيك صندوق المقاصة و الزيادة في أثمنة المحروقات و التحرير التدريجي للاسعار، و تقليص كتلة الاجور في حدود 2016، و تخفيض عدد مناصب الشغل في القطاع العام ابتداء من مشروع القانون المالي القادم إلى أدنى نسبة. كان على السيد بنكيران أن يشرح للمغاربة كل هذا بلغة الخشيبات عوض سوق بعض الامثلة التهريجية من قبيل''إذا عاش النسر عاشوا ولادو''. إن تجميد ميزانية الاستثمار يشكل ضربة قاصمة لكل خطابات الاصلاح، و يفرغها من روح المضمون و يفقد السياسات الحكومية روح الارادة الصادقة ، و يجعلها مجرد فقاعات صابون للاستهلاك الاعلامي ليس أكثر، إذ كيف يمكن الحديث مثلا عن خطة الاصلاح الشامل و العميق لمنظومة العدالة التي ما فتئ السيد مصطفى الرميد يجوب البلاد طولا و عرضا حاملا عشرات التصورات و مسوقا لها في كل ردهات المحافل و المحاكم، في الوقت الذي يقطع عنه رئيس حكومته حبل التمويل السري الذي يبعث الحياة في ملفاته المكدسة و يمنحها القدرة على التفعيل و التنزيل؟ (حوالي 250 مليون درهم حجم المبالغ المجمدة من ميزانية الاستثمار لوزارة العدل)، و نفس الامر ينطبق على كل القطاعات العمومية الاخرى، بل حتى الوثيقة الدستورية تظل مجرد حبر على ورق مخطوط، إذ لا يكفي توفير الاطار القانوني و التشريعي وحده، كما لا يمكن الحديث عن دولة المؤسسات في غياب الهياكل الادارية و البنايات و التجهيزات الكفيلة بضمان النجاعة و الفعالية و الولوجية و الفورية و المردودية و التحديث و القرب من المواطن. هذا في الوقت الذي يتحدث فيه وزير العدل عن ''قصور كبير في البنية التحتية للعديد من المحاكم و ضعف في الطاقة الاستيعابية لبناياتها (وضعية 30 محكمة على الاقل في حاجة عاجلة للمعالجة) و خصاص في البنية التحتية المعلوماتية (50 محكمة تنتظر أن تشملها عملية التحديث) و نقص في تهيئة الشبكة الكهربائية للعديد من المحاكم..''و كل هذا من أصل 110 محكمة موضوع تتوزع على التراب الوطني، و نفس الامر ينسحب علة باقي القطاعات الاقتصادية و الاجتماعية الاخرى الاكثر تضررا من تداعيات هذا الاجراء ''الاستراتيجي'' –حسب رئيس الحكومة-، فقطاع الفلاحة الذي لطالما طبلت ذات الحكومة لمنجزات مخطط المغرب الاخضر، الذي لا محالة سيعرف تعثرات هيكيلية جمة قد تعيق تقدمه و تزيده فشلا على فشل،رغم نفي السيد بنكيران لأية تداعيات محتملة قد تلحق بالمخطط جراء وقف اعتمادات الاستثمار، إلا إن الفلاح البسيط الغارق في القروض هو من يدفع دائما فاتورة الاخفاق أضعافا مضاعفة،و أيضا سينعكس القرار الذي كلف ميزانية الاستثمار في وزارة الفلاحة و الصيد البحري أكثر من ملياري درهم، على فرص الشغل بالعالم القروي إذ سيهم القرار الاعتمادات المرصودة لانجاز عملية غرس الاشجار المثمرة و تنمية الانتاج النباتي و الحيواني باعتماد يصل الى 350 مليون درهم، كما يطال القرار أيضا برامج الري و تجهيز المناطق الموجودة في سافلة السدود المنجزة بغلاف مالي يصل الى 525 مليون درهم، و هنا نسأل السيد بنكيران أليس من شأن قرار يكلف مبالغ مالية بهذا الحجم أن ينعكس سلبا على فرص الشغل و النمو الاقتصادي و التنمية الفلاحية بتلك المناطق؟ ننتقل إلى قطاع آخر أكثر حساسية، و هو قطاع الصحة الذي من المرتقب أن تتقلص ميزانية الاستثمار فيه بنسبة 50 في المائة (645 مليون درهم)، و هذا يعني خصاصا كارثيا على مستوى التجهيزات الطبية و البنية الاستشفائية، مما يصيب الخطاب الاجتماعي للدعاية الانتخابية للاحزاب المشكلة للحكومة في مقتل، و يعري زيف الشعارات الشعبوية للحكومة الملتحية، كما سيكون ورش إصلاح الادارة العمومية في مقدمة القطاعات المتضررة، بعدما تقرر تخفيض ميزانية الاستثمار المخصصة لوزارة الوظيفة العمومية و تحديث الادارة العمومية بنسبة 40 في المائة (17 مليون درهم)، أما الجانب الثقافي فيقع في آخر سلم اهتمامات السياسة الحكومية الحالية، فعوض الرفع من ميزانية الوزارة الوصية على الشأن الثقافي في البلاد، عمدت الحكومة إلى تجميد أكثر من 100 مليون درهم من ميزانية الاستثمار في القطاع الثقافي،لكن إن كانت الثقافة لا تشكل أولوية لحكومة "الفن النظيف''، فكيف يمكن اعتبار وضعية السجون الكارثية في البلاد لا يرقى إلى الاهتمام الحكومي؟ فمندوبية السجون ستفقد أكثر من ربع مليار درهم من ميزانيتها الاستثمارية، هذا في وقت تعيش فيه السجون المغربية خارج التاريخ، فالمساحة المخصصة لكل سجين لا تتعدى 6،1 متر، في حين تعادل المساحة في سجون اسكندنافيا 12 مترا، و من شأن تجميد ميزانية الاستثمار بهذه المندوبية مع العلم أن ميزانية التسيير تظل هزيلة حسب قانون مالية 2013 حيث لن تتعدى 1381 مليون درهم،(ومن شأن) أن يفاقم الوضع المزري أكثر، و هذا بشهادة تقريري لجنة العدل و التشريع البرلمانية و المجلس الوطني لحقوق الانسان مؤخرا، خاصة و أن عدد السجناء وصل إلى 72000 سجين موزعين على 73 مؤسسة سجنية تتراوح بين الصغيرة و المتوسطة و الكبيرة، و قد برمجت المندوبية بناء عدد من المؤسسات السجنية الاخرى هذه السنة، اضافة الى توسعة و اصلاح بعض السجون القائمة، لكن القرار الحكومي الاخير سيعمل على تجميد هذه البرامج لتستحيل إلى مجرد تصاميم فارغة موقوفة التنفيذ مكدسة في رفوف المندوبية حتى إشعار آخر، و على السجناء الذين يعانون الامرين خلف أسوار القلاع السجنية أن يصبروا، مادام الاكتظاظ السجني ليس أولوية على جدول أعمال الحكومة، بل إن أولوية الاولويات بالنسبة للسيد بنكيران هي إرضاء المؤسسات الرأسمالية القارضة حتى و لو كان ذلك على حساب الامن الاجتماعي و الاقتصادي للمواطنين، خاصة و أن وفدا من صندوق النقد الدولي برئاسة جون فرانسوا دوفان قد زار المغرب و التقى رئيس الحكومة من أجل الاطلاع أكثر على التدابير العملية خاصة ما يتعلق بصندوق التقاعد وصندوق المقاصة، بعد منح البنك الدولي 2،6 مليار دولار كخط ائتماني يمكن استعماله خلال مدة سنتين لمواجهة تداعيات الازمة الاقتصادية العالمية، و طبعا كل هذا على حساب القدرة الشرائية للمواطنين و جودة الخدمات العمومية المقدمة لهم على نقائصها الكثيرة،فهل دخل المغرب مجددا إلى منطقة الخطر مما يستلزم فرض نفس سياسات التقويم الهيكلي التي فرضت على المغرب مابين 1983-1992، و التي كانت لها تبعات اقتصادية و اجتماعية وخيمة على البلاد؟ لست أدري حقيقة،كيف يمكن للحكومة أن تقنع كتلة ناخبيها بمبررات هذا القرار و غيره من القرارات اللاشعبية الاخرى،خاصة و أن التصريح الحكومي يشكل التزاما سياسيا و اخلاقيا و قانونيا تلتزم به الحكومة أمام البرلمان و عبره أمام ناخبيها، مما يطرح سؤال الشرعية في ظل الخرق المستمر لهذا التعاقد، بدءا بالزيادة في أسعار المحروقات و رفع الضرائب و التحرش بأنظمة التقاعد و رفع الدعم و حل صندوق المقاصة و تجميد الاجور، هل بمثل هذه الاجراءات اللاشعبية و بالتنفيذ الامثل لاملاءات المؤسسات الرأسمالية الدولية سيتحقق الشعار الانتخابي ''محاربة الفساد و الاستبداد''؟ لو أن الدعاية الانتخابية للاحزاب السياسية المؤلفة للحكومة لم تتوسل الخديعة و التضليل في طرح برنامجها الانتخابي، لو أنها لم تأت بصيغة المنقذ و المخلص، و في المقابل تحلت بالواقعية السياسية و انطلقت من قاعدة معطيات رقمية علمية و إحصائية دقيقة، لو أن الحكومة الملتحية آنبثقت بصيغة حكومة إنقاذ وفق برنامج تقشفي صارم يخاطب العقول و لا يدغدغ العواطف الساذجة، حكومة أفرزتها مخاضات الازمة لتتعايش في ظلها و تتكيف مع واقع أزموي قاس، لتطرح أخيرا بدائل متوافق عليها لتجاوزه. لو أن الحكومة تملك نفس الجرأة السياسية التي تتجاسر بها على مكاسب المواطنين و تتطاول بها على الأمن الاجتماعي و الاقتصادي للطبقات الشعبية الدنيا،لكانت أعلنت بكل وضوح سياسي عن إخفاقها الذريع في تحقيق وعودها الانتخابية الوردية، و فشلها العميق في تقدير عمق الازمة و تدبير حلول ناجعة لها بدل الاجهاز على المكتسبات الهزيلة أصلا، و الهجوم على الخدمات الاجتماعية و الحقوق الاقتصادية للمواطنين، و نهج سياسة الاقتراض لسد النفقات العمومية،و بالتالي فهي تتحمل المسؤولية السياسية كاملة في تغليط الرأي العام و خداع الناخبين، و هنا وجب حل الحكومة و إجراء انتخابات مبكرة بشكل ديموقراطي و باصطفافات جديدة و قواعد تحالف سياسي شفافة و منسجمة،و دعاية معقلنة تتأسس على معطيات واقعية و توقعات منطقية تقارب الممكن على أرضية تعاقد جديد بين المواطن الناخب و الحكومة المنتخبة، بدل تسويق الاكاذيب المنمقة و استغلال الخطاب الديني للوصول سريعا إلى السلطة و من ثم سوق الرقاب الى المذابح و ارتهان مستقبل البلاد في قروض طويلة الامد، تتجه لتغطية الانفاق بدل الاستثمار، إن تخبط السياسة المالية للبلاد المرتبطة بعبثية القرار الاقتصادي المرتهن لتجاذبات الرأسمال الدولي،و نفوذ اللوبي الاقتصادي الوطني، و كذا المناوشات السياسية المخلة بالحد الادنى من التجانس الاغلبي المشكل للحكومة، جعلت من الرؤية الحكومية اكثر ضبابية، بل أكاد أجزم أنه لا وجود للرؤية اصلا، فالحكومة لا تنفذ ما جاء في برامج التصريح الحكومي، بل ما يستلزمه الظرف الاقتصادي الطارئ، و الذي تتحكم فيه مراكز القوى الوطنية و الدولية، إن الحكومة الحالية لا تتخذ إجراءات بل هي فقط تنفذ الاملاءات،و هذا يبدو جليا من خلال غياب البعد الاجتماعي والعمق الشعبي لمجمل الخيارات و التوجهات الماكرواقتصادية التي التزمت الحكومة باتخاذها مهما كلفها الامر، فأين هي الشرعية البرنامجية للحكومة المنتخبة؟ إن قرار تجميد الاستثمار يتخذ بعدا رمزيا للتدليل على خرق التعاقد بين الحكومة و ناخبيها،كما يؤشر على بداية مرحلة تدبيرية جديدة تبتدئ بالقطع التدريجي لليد الاستثمارية للدولة في قطاعاتها الحيوية الموجهة أساسا للمواطن البسيط، في أفق رفع اليد الحكومية بالكامل عن كل النفقات القطاعية الاخرى، و ربما يأتي يوم لن تفي فيه الدولة بالتزاماتها المترتبة عن دفع أجور موظفيها، أو على الاقل تجميدها مؤقتا من أجل توفير السيولة لتغطية نفقات خدمة الدين الخارجي، الذي بحسب بعض الخبراء فإن المغرب قد سدد في الفترة الفاصلة بين 1983 و 2011 الى الخارج ما يفوق 115 مليار دولار، أي ما يعادل 8 مرات دينه الاصلي، فلم الحرص يا سيد بنكيران على الالتزام بتعهدات المغرب و تسديد الجزء الكريه من هذا الدين المضاعف أضعافا، في حين تضرب عرض الحائط كل التزامات برنامجك الانتخابي و الحكومي؟ و لانك حريص على مصداقية المغرب و سمعته في دوائر المؤسسات الرأسمالية ارتأيت التقيد بإجراءات التقشف، و عوض إحداث قطيعة -على الاقل تدريجية-مع منطق الاقتراض الرأسمالي، اتجهت لنفس الخيار اللاوطني في تدبير السياسة المالية للدولة،إنه فعلا خيار سهل لكنه يقذف مستقبل البلاد و الاجيال القادمة في دوامة الديون و الخضوع، فلا سيادة وطنية في ظل المديونية. المصدرhttp://www.marocdroit.com/تجميد-15-مليار-درهم-من-نفقات-الاستثمار-العمومي-تدبير-أزمة-أم-أزمة_a3588.html | |||
| |||
| |||
|
0التعليقات :