http://ifttt.com/images/no_image_card.png ذ عبد العزيز خنفوسي ماجستير في القانون العام زائد تسجيل سنة خامسة دكتوراه أستاذ جامعي دائم. مقدمة: إن مبدأ حرية القاضي الجزائي في الاقتناع و تقدير الأدلة هو أوسع المبادئ القانونية انتشاراً في قوانين و دساتير العالم المتحضر، وهو أهم مبدأ من مبادئ نظام الإثبات الحر. وقد أخذ به المشرع الجزائري عندما نص في المادة 212 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري المعدل والمتمم على ما يلي: "يجوز إثبات الجرائم بأي طريق من طرق الإثبات ماعدا الأحوال التي ينص فيها القانون على غير ذلك، وللقاضي أن يصدر حكمه تبعا لاقتناعه الخاص. ولا يسوغ للقاضي أن يبني قراره إلا على الأدلة المقدمة له في معرض المرافعات والتي حصلت المناقشة فيها حضوريا أمامه"، وغاية المشرع من إعطاء القاضي الجزائي هذه الحرية الواسعة لتشكيل قناعته وتقدير الأدلة المطروحة أمامه هو تمكينه من معرفة الحقيقة وكشف غوامض كل واقعة جرمية لتأمين العدالة، و ضمان حرية الأفراد و صون كرامتهم والمشرع لم يعتمد نظام الإثبات الحر إلا بعد تجارب عديدة أثبتت جميعها أنه لا يمكن لأي تشريع مهما كان متطوراً علميا أن يحدد بشكل مسبق أدلة إثبات قاطعة و جازمة لا يرقى الشك إليها، لذا أسند المشرع لوجدان القاضي الجزائي و ضميره و شرفه مسألة تقدير الأدلة وحرية الاقتناع بها كإنسان مسؤول أمام الله والمجتمع لتطبيق العدالة، واعتبره أفضل ضمانة لتطبيق القانون وبسط العدالة. وعليه هل نستطيع القول أن تقييم وتقدير أدلة الإثبات من طرف القاضي الجزائي يخضع إلى التحكم والاستبداد، أم أن الأمر متعلق بضوابط معينة يجب على القاضي الجزائي احترامها؟ إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في أن حرية القاضي في الاقتناع الوجداني بالأدلة المطروحة عليه لا يجب أن تفهم على أنها حرية تحكمية أو غير منضبطة، بل هي حرية لها أصول وضوابط يجب إتباعها حرصا على صيانة الحق، وحفاظا على قدسية وحسن تطبيق القانون، وأهم هذه الضوابط ما يلي: أولاً: يجب أن يكون الاقتناع بناءًا على وجود دليل إن القاضي الجزائي عندما يكون قناعته لا يكونها من فراغ إنما بناءًا على أدلة موجودة بالدعوى، و المشرع لم يحدد أدلة معينة في الإثبات الجزائي، وإنما فرض على القاضي الجزائي أن يبني قناعته استناداً إلى دليل موجود وهذا الدليل يجب أن يكون كاملاً وقد أدى الاستناد عليه إلى هذه النتيجة التي استخلصها القاضي، وذلك ليتسنى لمحكمة النقض مراقبة حسن التقدير واستدلال القاضي، وهذا لأن هناك بعض الوقائع أو المواقف لا ترقى إلى مرتبة الدليل وبالتالي لا يصح الركون إليها وحدها في تشكيل القناعة للمحكمة (1). ومن هذا القبيل نجد أن سكوت المدعى عليه لا يعد إقراراً منه على ما نسب إليه لأنه لا ينسب إلى ساكت قول، كما لا يجوز للمحكمة أن تتخذ من غياب المدعى عليه أثناء المحاكمة قرينة كافية للحكم عليه دون وجود دليل، وكذلك أن العطف الصادر من متهم على أخر ليس بدليل كاف على نسب الجرم إلى المتهم الآخر، وإنما يبقى مجرد قول يحتاج إلى دليل أو أدلة تسانده وبالتالي لا يجوز الاعتماد عليه في الإدانة. ثانياً: بجب أن يكون الدليل الذي استخدمه القاضي في قناعته قضائياً تنص المادة 212 ف02 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري المعدل والمتمم على أنه: " ولا يسوغ للقاضي أن يبني قراره إلا على الأدلة المقدمة له في معرض المرافعات والتي حصلت المناقشة فيها حضوريا أمامه"، أي لا بد أن يكون الدليل الذي استند إليه القاضي لتكوين قناعته له أصل في أوراق الدعوى، وطرح في الجلسات للمناقشة العلنية وخضع لحرية المناقشة من قبل أطراف الدعوى بعد تلاوته أمام الجميع من قبل المحكمة، وفائدة ذلك حتى يعرف أطراف الدعوى الأدلة التي ضدهم والأدلة التي من مصلحتهم، ولكي يكون القاضي قناعته استناداً إلى تحقيق أجراه بنفسه، فالشهادة التي لا تدون في محاضر الجلسات لا يجوز الاعتماد عليها في الحكم، وإن كانت قد سمعت في الجلسة وبحضور الخصوم وتناقش الخصوم بها، واعتماد القاضي في تكوين قناعته على دليل لم يطرح في جلسات المحاكمة للمناقشة يعتبر إخلالا بحقوق الإطراف. ثالثاً: الاقتناع بناءًا على أدلة مشروعة وصحيحة على القاضي أن يكون قناعته الوجدانية من خلال أدلة مشروعة وصحيحة ويطرح الأدلة التي جاءته عن طريق إجراءات غير مشروعة أو غير قانونية جانباً، وهذا لأن ما بني على باطل فهو باطل وغاية المشرع من ذلك هو تأمين حق الدفاع المقدس للأفراد، وبالتالي يكون الدليل المتحصل عليه بالضغط والإكراه والخديعة والاحتيال دليلا معيبا يتوجب على القاضي استبعاده من بين الأدلة المطروحة عليه، وذلك استنادا لدستور1989 المعدل والمتمم الذي نص في فصل الحقوق الحريات بموجب المادة 45 منه على أن:" كل شخص يعتبر بريئا حتى تثبت جهة قضائية نظامية إدانته، مع كل الضمانات التي يتطلبها القانون"، وكذلك المادة 46 من نفس الدستور بقولها: " لا إدانة إلا بمقتضى قانون صادر قبل ارتكاب الفعل المجرم"، وأما المادة 47 فقد نصت على أنه:" لا يتابع أحد ولا يوقف أو يحتجز إلا في الحالات المحددة بالقانون وطبقا للأشكال التي نص عليها". رابعاً: الاقتناع بناءًا على الإلمام بجميع الأدلة يتوجب على القاضي قبل أن يصدر حكمه وحتى تكون قناعته صحيحة أن يطلع على جميع الأدلة الموجودة في الدعوى، وأن يمحص كل تلك الأدلة أدلة إثبات كانت أو أدلة نفي (2)، كما لا يجوز للقاضي الاستعجال والحكم بالدعوى قبل استكمال التحقيق وجمع الأدلة ومناقشتها، وليس له الاستغناء عن كل تحقيق منتج في الدعوى و يؤثر في سير القضية، إلا بعد مناقشته والرد عليه، فإذا اقتصر القاضي على بعض الأدلة و فصل في الدعوى قبل أن يطلع على أدلة الآخرين، فإن حكمه يكون سابقاً لأوانه و جديرا بالنقض، لذلك يجب على القاضي الجزائي الإلمام بكل الأدلة المطروحة بالدعوى، وهذا لأن الأدلة يجب أن تكون متساندة لكشف الحقيقة فلربما كان لأحد الأدلة التي لم يطلع عليها القاضي أثر كبير للوقوف على الحقيقة (3). خامسا: يجب أن يكون الاقتناع يقيني طبقا لقاعدة "الشك يفسر لمصلحة المتهم" فإن الأحكام يجب أن تبنى على الاقتناع اليقيني القاطع و الجازم بارتكاب المتهم للجرم، فالقاضي الجزائي يجب أن لا يحكم إلا بعد أن تكون قد تمثلت في ذهنه كافة احتمالات الواقعة الجرمية (4)، وكانت كافة هذه الاحتمالات تؤدي إلى إدانة المتهم فلو وجد احتمال بسيط لمصلحة المتهم يبرئ ساحته، فإن هذا الاحتمال يعتبر شكاً و الشك يفسر لمصلحة المتهم، وعليه يجب أن تبنى الأحكام على الجزم و اليقين و ليس الظن و الاحتمال، وفي هذا الضابط يجب التفرقة بين مرحلتين هما: مرحلة التحقيق و مرحلة المحاكمة ففي مرحلة التحقيق لا يشترط أن تصل قناعة القاضي إلى حد اليقين الكامل بإدانة المدعى عليه، بل يكفي مجرد ترجيح الإدانة على البراءة، أما في مرحلة المحاكمة و الحكم فإن الحكم بالإدانة يجب أن يبنى على اليقين الكامل لاستبعاد قرينة البراءة. سادساً: تعليل وتسبيب الأحكام إن من ضوابط حرية القاضي الجزائي في الاقتناع بأي دليل أن يسبب حكمه، أي يذكر الأسباب و العلل التي قادته و جعلته يحكم بالإدانة أو البراءة، و إلا كان القرار عرضة للنقض، وقد نصت المادة 314 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري المعدل والمتمم على وجوب تسبيب الأحكام فقالت:"... كما يجب أن يشتمل فضلا عن ذلك على ذكر ما يلي: بيان الجهة القضائية التي أصدرت الحكم، تاريخ النطق بالحكم، الوقائع موضوع الاتهام، الأسئلة الموضوعة والأجوبة التي أعطيت عنها وفقا لأحكام المواد 305 وما يليها من هذا القانون، العقوبات المحكوم بها ومواد القوانين المطبقة دون حاجة لإدراج النصوص نفسها..." ، وبالتالي فقد أوجبت هذه المادة أن يشتمل الحكم على العلل و الأسباب الموجبة له، و لا يكفي أن يعدد الحكم في حيثياته الأدلة في الدعوى، بل يجب أن يبين خلاصة عن كل دليل طرح في الدعوى و مناقشة كافية لمعرفة الأدلة التي أخذ بها الحكم. سابعاً: الاقتناع الذي يأتلف مع المنطق والعقل السليم يجب أن يكون ما يعتمده القاضي من أدلة يؤدي بشكل طبيعي إلى النتيجة التي وصل إليها، فاستقلال القاضي في تقدير الأدلة مقيد بسلامة التقدير والاستدلال (5)، فإذا كانا غير سليمين أو كانا قائمين على أسس ضعيفة وركائز واهية، فإن الحكم الصادر يكون خاضعا لرقابة محكمة النقض (المحكمة العليا) و عرضة للنقض (6)، وذلك من أجل صيانة الحق و حسن تطبيق القانون. ثامنا: منع اللجوء إلى أدلة معينة لا يجوز للقاضي أن يلجأ إلى أدلة معينة لتكوين عقيدته منها، ومهما كانت القضية المطروحة عليه، فالقاضي ليس حرا في تكوين عقيدته مثلا في توجيه اليمين الحاسمة، وذلك لأنها- بالرغم من كونها دليلا مقبولا في المواد المدنية- من المحظور على القاضي الجنائي أن يلتجأ إليها بالرغم من عدم وجود نص يؤكد هذا الحظر (7). تاسعا: الاقتناع الذي يتماشى مع الأخلاق النبيلة وصحوة الضمير بعد أن استعرضنا ضوابط حرية القاضي الجزائي في الاقتناع و تقدير الأدلة، فإن الضابط الأهم و الأبرز في هذا المجال يكمن في الضابط الأخلاقي، حيث أنه أثبتت التجارب في بلدنا وفي كل بلدان العالم أنه لا يمكن تقييد القاضي مهما وضعنا من قيود و ضوابط، إلا بقيد ضابط الشرف والضمير والذي هو الضابط الأهم لكي تسير العدالة في طريقها الصحيح والسوي. الخاتمة: إن العدد الكبير من المجرمين يقترف جرائمه عن سابق تصور وتصميم ثم يحاول طمس المعالم والآثار الجرمية حتى ينجو من العقاب ولا يكتشف أمره، ولذلك عمد المشرع لفتح الباب أمام القاضي الجزائي، وترك له حرية الاقتناع في سبيل الوصول إلى الحقيقة والعدالة وعلى أساس مبدأ القناعة الوجدانية وذلك رغبة منه - المشرع - في أن لا يفلت أمثال هؤلاء المجرمين بجرائمهم، مما جعل مبدأ حرية القاضي الجزائي في الاقتناع وتقدير الأدلة ركنا أساسيا من أركان العدالة الجزائية المعاصرة. لكن في مقابل ذلك يجب أن يفهم من أن هذه الحرية التي يتمتع بها القاضي الجزائي الجزائري أو أي قاض آخر ليست حرية تحكمية تخضع للتصورات والأهواء الشخصية، وإنما هي حرية محكومة بمجموعة من القيود تحاول أن ُتقوم القاضي الجزائي، وترشده إلى الطريق الصحيح الذي يتمثل في تحقيق العدالة وفقا للقاعدة القانونية. الهوامش والمراجع: (1)- أنظر: الدغيدي محمد مصطفى، التحريات والإثبات الجنائي، شركة ناس للطباعة، 2004، دون بلد نشر، ص: 282. (2)- أنظر: دردوس المكي، الموجز في علم الإجرام، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، دون تاريخ، ص- ص: 88-92. (3)- أنظر: الشلقاني أحمد شوقي، مبادئ الإجراءات الجنائية في التشريع الجزائري، الجزء الثاني، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1999، ص- ص: 26- 29. (4)- أنظر: الشهاوي عبد الفتاح قدري، مناط التحريات، الاستدلالات والاستخبارات، منشأة المعارف بالإسكندرية، مصر، 2003، ص: 95. (5)- أنظر: المعايطة عمر منصور، الأدلة الجنائية والتحقيق الجنائي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ط1، عمان، الأردن، 2007، ص:84. (6)- أنظر: الهيثي مرهج محمد حماد، الموسوعة الجنائية في البحث والتحقيق الجنائي، الأدلة الجنائية، دار الكتب القانونية، مصر، 2008، ص:420. (7)- أنظر: مروان محمد، نظام الإثبات في المواد الجنائية في القانون الوضعي الجزائري، الجزء الثاني، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، دون تاريخ نشر، ص:439. المصدرhttp://www.marocdroit.com/ضوابط-حرية-القاضي-الجزائي-الجزائري-في-الاقتناع-الوجداني-وتقدير_a3579.html | |||
| |||
| |||
|
0التعليقات :