تجسيد مبدأ حرية الاثبات الجزائي في القانون الجنائي الجزائري

http://ifttt.com/images/no_image_card.png
ذ عبد العزيز خنفوسي ماجستير في القانون العام زائد تسجيل سنة خامسة دكتوراه أستاذ جامعي دائم.
  مقدمة: 

       إن نظام الإثبات المعمول به في التشريع الجزائري هو نظام الإثبات الحر، وذلك حسب ما جاءت به المادة 212 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري المعدل والمتمم التي تنص على: "يجوز إثبات الجرائم بأي طريق من طرق الإثبات ماعدا الأحوال التي ينص فيها القانون على غير ذلك، وللقاضي أن يصدر حكمه تبعا لاقتناعه الخاص.
      ولا يسوغ للقاضي أن يبني قراره إلا على الأدلة المقدمة له في معرض المرافعات والتي حصلت المناقشة فيها حضوريا أمامه".
      فكما نرى حسب هذه المادة أن التشريع الجزائري قد تبنى مبدأ الإثبات الحر، وهو في ذلك قد حذا حذو معظم التشريعات الأخرى الحديثة (1)، وهذا لأن من متطلبات العصر الحالي أن يسود نظام الإثبات الحر لدى المحاكم الجزائرية، وذلك بسبب نوعية الجرائم التي تعرض على القضاء الجزائري الذي ما فتئ يتفاجئ بتطور الذهنيات والعقليات التي تقف وراء هذه الجرائم، فكان لبد من الأخذ بنظام الإثبات الحر الذي يواكب جميع الظروف المستخدمة.
      وعليه فالتساؤل الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو: إلى أي حد يمكن للقاضي الجزائي أن يجسد مبدأ حرية الإثبات الجنائي، وهذا دون أن يخرج عن الحدود التي وضعها المشرع الجزائري لهذا المبدأ؟
      للإجابة على هذا التساؤل يتحتم علينا الأمر معالجته وفق الخطة التالية: 

أولا: تكريس مبدأ حرية الإثبات الجنائي في ظل التشريع الجنائي الجزائري.

    إن المشرع الجزائري قد تبنى في قانون الإجراءات الجزائية الجزائري المعدل والمتمم مبدأ حرية الإثبات، وذلك بعكس القانون المدني الذي تعتبر فيه أدلة الإثبات مقيدة، علما بأن الإثبات في القانون المدني الجزائري قد نظمه قانون قائم بحد ذاته بشأن الإثباتات في المواد المدنية والتجارية، أما الإثبات في المسائل الجزائية لا يتضمن سوى بضعة نصوص في قانون الإجراءات الجزائية، وهذا يتفق مع طبيعة المبدأ الذي أخذ به كل قانون، ذلك أن قانون الإجراءات الجزائية قد أخذ بمبدأ حرية الإثبات، فتكفي الإشارة هنا أو النص ببعض المواد على الأطر العامة، ويترك الباقي لحرية القاضي الجزائي، أما القانون المدني فقد عدد أدلة الإثبات وحدد قواعد الأخذ بها، وألزم القاضي التقيد بها.
    وعليه يستدل على هذا المبدأ أيضا في قانون الإجراءات الجزائية الجزائري المعدل والمتمم بنص المادة 286/1 منه، وهذا بقولها: "...له سلطة كاملة في ضبط حسن سير الجلسة وفرض الاحترام الكامل لهيئة المحكمة واتخاذ أي إجراء يراه مناسبا لإظهار الحقيقة".
       وأيضا نرى هذا التوجه في المادة 307 من القانون ذاته، والتي تنص على ما يلي:"...إن القانون لا يطلب من القضاة أن يقدموا حسابا عن الوسائل التي بها قد وصلوا إلى تكوين اقتناعهم، ولا يرسم لهم قواعد بها يتعين عليهم أن يخضعوا لها على الأخص تقدير تمام أو كفاية دليل ما، ولكنه يأمرهم أن يسألوا أنفسهم في صمت وتدبر، وأن يبحثوا بإخلاص ضمائرهم في أي تأثير قد أحدثته في إدراكهم الأدلة المسندة إلى المتهم وأوجه الدفاع عنها ولم يضع لهم القانون سوى هذا السؤال الذي يتضمن كل نطاق واجباتهم: هل لديكم اقتناع شخصي؟".
       كما نجد كذلك نص المادة 162/02 من القانون السابق ذكره تنص على: "يمحص قاضي التحقيق الأدلة وما إذا كان يوجد ضد المتهم دلائل مكونة لجريمة من جرائم قانون العقوبات".

ثانيا: تجسيد القاضي الجزائي لمبدأ حرية الإثبات الجنائي.

      من خلال نصوص المواد السابقة، فإنه يمكن أن يتجسد مبدأ حرية الإثبات الجنائي من عدة جوانب نذكر منها ما يلي:
- الاقتناع الشخصي للقاضي الجزائي: إن القاضي الجزائي وفقا لمبدأ حرية الإثبات الجنائي له سلطة تقديرية واسعة في تكوين قناعته (2)، وهذا بالاستناد إلى هذا الدليل أو ذاك، فهو غير ملزم بالحكم بالإدانة ولو توافرت عدة أدلة ضد المتهم إذا لم يشعر وجدانيا بأنها تكفي للإدانة، وكذلك فهو غير ملزم بالحكم بالبراءة ولو لم تتوافر الأدلة الكاملة لهذه البراءة إذا ما استشف من أحد الأدلة إدانة ذلك المتهم، ولا يحتج أحد على مسلكه طالما أن الدليل المستند إليه مأخوذ من الأدلة المطروحة أمامه في الدعوى.
- الدور الايجابي للقاضي الجزائي: يبرز دور القاضي باستنتاج الوقائع المعروضة عليه على بساط البحث، وينبع الدور الايجابي للقاضي بأنه عبارة عن احتمالات ذات درجة عالية من التأكيد تصل إليه نتيجة استبعاد الشك، والذي يتأثر بمدى قابلية الشخص واستجابته للدوافع المختلفة.
    وعليه يمكن القول بأن دور القاضي الجزائي في ظل مبدأ حرية الإثبات الجنائي هو دور غير مقيد، وذلك لأنه يسعى بكل الوسائل المشروعة للوصول إلى الحقيقة المطلقة من أجل تحقيق العدالة، وله أن يتمم الدليل الناقص المقدم إليه من الخصوم، وأن يتحرى أدلة الدعوى بنفسه.
- إطلاق الأدلة: إن الأدلة في ظل مبدأ حرية الإثبات الجنائي هي غير محددة، فالخصوم لهم الحرية في الالتجاء إلى أي دليل يمكنهم من إثبات دعواهم، ومرجع ذلك هو صعوبة الإثبات في المواد الجزائية، وهذا لأن المجرمين يعملون بالخفاء، ويرتكبون جرائمهم بناءًا على التخطيط والأسلوب الغامض، كما يحاول بعضهم طمس معالم الجريمة بعد وقوعها بكافة الوسائل(3)، بالإضافة إلى أن التطور العلمي أدى إلى ابتكار أساليب جديدة للجرائم، ومن مصلحة المجتمع مكافحة الإجرام، ولن يتأكد ذلك إلا من خلال أن يخول للقضاء إثبات الجريمة بكافة طرق الإثبات، فالأدلة وفق هذا المبدأ وضعت على قدم المساواة وهي مقبولة ولها القوة الثبوتية.
- استخدام العلم والمعرفة: إن مبدأ حرية الإثبات الجزائي يمتاز باستخدامه العلم والمعرفة كوسيلة للمساعدة والكشف عن الحقيقة ومساندة قناعة القاضي الجزائي(4)، وهذا من شأنه التقليل من الأخطاء القضائية.
- تطبيق المبدأ على جميع أنواع الجرائم: لقد استقر الفقه والقضاء على أن مبدأ حرية الإثبات الجزائي يطبق على جميع أنواع الجرائم (مخالفات، جنح، جنايات).
     وقد نص المشرع الجزائري في المادة 212 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري المعدل والمتمم على أنه: "يجوز إثبات الجرائم بأي طريق من طرق الإثبات ما عدا الأحوال التي ينص فيها القانون على غير ذلك، وللقاضي أن يصدر حكمه تبعا لاقتناعه الخاص".
- تطبيق المبدأ يمتد إلى جميع مراحل الدعوى الجزائية كافة: إن الدعوى الجزائية في الجنايات والجنح تمر بمرحلتين أساسيتين هما:
أ/ مرحلة التحقيق الابتدائي: إن قضاة التحقيق قد يصدرون قرارات تؤسس مدى اقتناعهم الشخصي، ولا يشترط أن تصل هذه الأدلة إلى مرتبة اليقين، إذ يكفي لتبرير الاتهام أن تتوافر دلائل تفيد الشك في ارتكاب المتهم للجريمة، والشك يفسر ضد المتهم في مرحلة التحقيق، ويفسر في صالحه في مرحلة المحاكمة التي يجب أن تبنى على أدلة يقينية، هذا في حين أن الاتهام يكفي أن يبنى على شبهات ودلائل.
     وعليه نجد أن مهمة قاضي التحقيق في التشريع الجزائي الجزائري هي القيام بإجراءات البحث والتحري عن الجرائم (المادة 38 من ق.إ.ج.ج المعدل والمتمم)، وهذا بغية الوصول إلى الحقيقة.
ب/ مرحلة المحاكمة: وهي المرحلة التي يتقرر فيها مصير الدعوى الجزائية بعد التأكد من عناصر الإثبات، وقبل إصدار الحكم فيها بالبراءة أو الإدانة.
    ولقد نص المشرع الجزائري على مبدأ حرية الإثبات الجنائي بالنسبة لمرحلة المحاكمة في المادة 235/01 من ق.إ.ج.ج المعدل والمتمم بقولها: " يجوز للجهة القضائية إما من تلقاء نفسها أو بناءًا على طلب النيابة العامة أو المدعي المدني أو المتهم أن تأمر بإجراء الانتقالات اللازمة لإظهار الحقيقة".
- التزام القاضي الجزائي بالاستثناءات الواردة على مبدأ حرية الإثبات الجنائي: على الرغم من أن المشرع الجزائري أخذ بمبدأ حرية الإثبات كأصل عام، إلا أنه أوجب على القاضي الجزائي الالتزام ببعض الأدلة أو ترك بعضها في حالات معينة هي كالتالي:
أ/ اشتراط أدلة معينة لإثبات جريمة معينة: لقد اشترط المشرع الجزائري في جريمة الزنا المنصوص عليها في المادة 341 من قانون العقوبات الجزائري المعدل والمتمم أدلة معينة من أجل الإثبات، وهي: 01- محضر قضائي يحرره أحد رجال الضبط القضائي يتضمن جريمة الزنا المتلبس بها.
02- الإقرار الكتابي (الاعتراف الشخصي) الوارد في رسائل أو مستندات صادرة عن المتهم.
03- الإقرار القضائي (الاعتراف القضائي) الذي يجب أن يكون أمام مرجع قضائي سواء أكان أمام النيابة العامة أو المحكمة، ويجب أن يكون الاعتراف صادر عن كليهما.
ب/ استبعاد بعض وسائل الإثبات: هناك بعض الأدلة لا يجوز الأخذ بها في الإثبات في المواد الجزائية، وهذا لأن الأخذ بها يخل بحق الدفاع الذي هو حق مقدس، لهذا قام المشرع الجزائري باستبعادها وعدم الأخذ بها كوسيلة من وسائل الإثبات، حيث نصت في هذا الصدد المادة 217 من ق.إ.ج.ج المعدل والمتمم على ما يلي: "لا يستنبط الدليل الكتابي من المراسلة المتبادلة بين المتهم ومحاميه".
     وبالتالي يمكن القول بأنه لا يمكن الركون على رسالة قام بإرسالها المتهم إلى محاميه يعترف فيها أنه قام بارتكاب الجريمة كدليل ضده لإثبات الجريمة بحقه.
ج/ القوة الثبوتية لبعض المحاضر: كما ذكرنا سابقا أن تبعا لنظام الإثبات الحر، فإنه لا يوجد دليل له قوة ثبوتية أكثر من دليل آخر، فجميع الأدلة تحمل نفس القوة الثبوتية حسب نظام الإثبات الحر، إلا أنه قد وجد في القانون الجزائري استثناءات لبعض المحاضر طبقا لنص المادة 218 من ق.إ.ج.ج المعدل والمتمم التي نصت على أنه: " إن المواد التي تحرر عنها محاضر لها حجيتها إلى أن يطعن فيها بالتزوير تنظمها قوانين خاصة".
      ومن الأمثلة على هذه المحاضر نجد: محاضر الجلسات في المحاكمة، محاضر التحقيق الصادرة عن قاضي التحقيق، نصوص الأحكام...الخ.
د/ إثبات المسائل غير الجزائية: إن إثبات المسائل غير الجزائية التي يتعلق الجرم بها يجب أن يكون بإتباع قواعد الإثبات الخاصة بها، وهذا يعني أن يتطلب من القاضي عندما تثار أمامه مسألة غير جزائية (مدنية، تجارية، أحوال شخصية) بصورة تابعة للدعوى الجزائية، وكانت هذه المسألة تحتاج إلى إثبات أن يتبع طرق الإثبات الخاصة التي تطبق على هذه المسائل فيما لو كان النزاع غير منظور أمام المحكمة الجزائية.
- تطبيق القواعد المتعلقة بعبء الإثبات: إذا كان الأصل هو أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وهذا باعتبار ما تقوم عليه الشواهد، وأنه الأصل في الإنسان(5). وإذا كان هذا الأصل من الممكن أن ينقض بأدلة تثبت خلاف ذلك لأنه قرينة غير قاطعة، فإن من يدعي خلاف ما قامت عليه الشواهد عليه إثبات ما يدعي، وحيث أن سلطة الاتهام (النيابة العامة) أو الادعاء العام في غيرها من التشريعات باعتبارها السلطة التي تملك حق إقامة الدعوى العمومية ومباشرتها، وهي التي تدعي خلاف ما تقوم عليه الشواهد باتهام شخص ما بارتكاب جريمة، فعليها إذن يقع عبء الإثبات، حيث يقع عليها إثبات جميع عناصر الجريمة بجميع أركانها ما لم يشترط القانون خلاف ذلك.
   
خاتمة:
    يمكن القول في الأخير أن المشرع الجزائري بالرغم من نصه على مبدأ حرية الاثبات الجنائي، إلا أنه حاول قد المستطاع أن يحد من سلطة تعسف القاضي الجزائي، وهذا من خلال جل القواعد والاجراءات القانونية التي يجب على القاضي الجنائي أن يطبقها وهو يجسد مبدأ حرية الاثبات الجزائي أثناء نظره في النزاعات التي تطرح عليه، والتي يكون ملزما بالفصل فيها طبقا لمبدأ الاقتناع الوجداني"الاقتناع الشخصي للقاضي الجزائي".
 
 

الهوامش والمراجع:
(1)- أنظر: الدكتور أحمد عوض بلال، قاعدة استبعاد الأدلة المتحصلة بطرق غير مشروعة في الاجراءات الجنائية المقارنة، دار النهصة العربية، القاهرة، 1993/1994، ص: 26.
(2)- أنظر: الدكتورة مفيدة سويدان، نظرية الاقتناع الذاتي للقاضي الجنائي، رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة، ص: 05 وما بعدها.
(3)- أنظر: الدكتور مأمون سلامة، الاجراءات الجنائية في التشريع المصري، دار النهضة العربية، 2001، ص: 91.
(4)- أنظر: محمد عيد الغريب، حرية القاضي الجنائي في الاقتناع اليقيني وأثره في تسبيب الأحكام الجنائية، النشر الذهبي للطباعة، 1996/1997، ص: 06.
 (5)- أنظر: السيد محمد حسن شريف، النظرية العامة للاثبات الجنائي، دار النهضة العربية، مطبعة حمادة الحديثة، 2002، ص: 198.



المصدرhttp://www.marocdroit.com/تجسيد-مبدأ-حرية-الاثبات-الجزائي-في-القانون-الجنائي-الجزائري_a3552.html




ifttt
Put the internet to work for you. via Personal Recipe 2937150